recent
أخبار ساخنة

هرتلة في القاهرة.. رحلة بصرية وفلسفية في عمق العاصمة المصرية بعدسة فرح الهاشم

 

هرتلة في القاهرة.. رحلة بصرية وفلسفية في عمق العاصمة المصرية بعدسة فرح الهاشم

قسم الافلام

تعد القاهرة واحدة من أكثر المدن في العالم إلهاماً للسينمائيين، فهي ليست مجرد موقع جغرافي، بل هي حالة إنسانية وكائن حي يتنفس التاريخ والحداثة في آنٍ واحد. وفي خضم المحاولات السينمائية المستمرة لتوثيق روح هذه المدينة، يأتي الفيلم الوثائقي "هرتلة في القاهرة" للمخرجة اللبنانية الكويتية فرح الهاشم، ليقدم طرحاً مغايراً يتجاوز السرد التقليدي، معتمداً على مفهوم "الهرتلة" كأداة فنية لاستكشاف طبقات المدينة المعقدة.

في هذا المقال التحليلي، نغوص في تفاصيل هذا العمل السينمائي الفريد، مستكشفين كيف تحولت الفوضى والعشوائية إلى لغة سينمائية، وكيف رسمت الهاشم بورتريه بصرياً للقاهرة يجمع بين الحنين للماضي وواقعية الحاضر.

تعد القاهرة واحدة من أكثر المدن في العالم إلهاماً للسينمائيين، فهي ليست مجرد موقع جغرافي، بل هي حالة إنسانية وكائن حي يتنفس التاريخ والحداثة في آنٍ واحد. وفي خضم المحاولات السينمائية المستمرة لتوثيق روح هذه المدينة، يأتي الفيلم الوثائقي "هرتلة في القاهرة" للمخرجة اللبنانية الكويتية فرح الهاشم، ليقدم طرحاً مغايراً يتجاوز السرد التقليدي، معتمداً على مفهوم "الهرتلة" كأداة فنية لاستكشاف طبقات المدينة المعقدة. في هذا المقال التحليلي، نغوص في تفاصيل هذا العمل السينمائي الفريد، مستكشفين كيف تحولت الفوضى والعشوائية إلى لغة سينمائية، وكيف رسمت الهاشم بورتريه بصرياً للقاهرة يجمع بين الحنين للماضي وواقعية الحاضر
هرتلة في القاهرة.. رحلة بصرية وفلسفية في عمق العاصمة المصرية بعدسة فرح الهاشم


هرتلة في القاهرة.. رحلة بصرية وفلسفية في عمق العاصمة المصرية بعدسة فرح الهاشم


مفهوم  الهرتلة عندما تصبح الفوضى فناً

العنوان بحد ذاته، "هرتلة في القاهرة"، يحمل مفاتيح فهم الفيلم. "الهرتلة" في المفهوم الشعبي تعني الثرثرة العفوية، الكلام غير المرتب، أو الفوضى الظاهرة. لكن الهاشم في هذا الفيلم تعيد تعريف هذا المصطلح، محولة إياه من صفة سلبية إلى أداة معرفية وجمالية.

الفيلم لا يسعى لتقديم قصة خطية ذات بداية ونهاية تقليدية، بل يتماهى مع إيقاع المدينة نفسها. القاهرة لا تتحرك بخطوط مستقيمة، بل في دوائر متداخلة من البشر، الأصوات، والمركبات. هنا، تصبح الهرتلة هي اللغة الوحيدة القادرة على استيعاب هذا الزخم. إنها وسيلة لفهم المدينة بعيداً عن المنطق الصارم، حيث يصبح الكلام المرتجل والحركة العشوائية للناس في الشوارع والمقاهي هما البطل الحقيقي للمشهد.

المدينة ككائن حي يتنفس

تنجح فرح الهاشم في تصوير القاهرة ليس كخلفية للأحداث، بل ككائن حي يمتلك إيقاعه الخاص. الفيلم يصور المدينة وهي:

  • غير متوقعة: الأحداث تتدفق بعفوية دون سيناريو مسبق.
  • متعددة الطبقات: تمزج بين التاريخي واليومي، بين الغني والفقير.
  • غنية بالمفارقات: حيث يتجاور الصخب مع الصمت، والضحك مع الألم.

الشوارع، الأزقة الضيقة، بوفيهات الطعام المغلقة، والمقاهي الشعبية، كلها تتحول إلى عناصر سردية تنبض بالحياة، مما يمنح المشاهد شعوراً بأن المدينة تتحدث وتعبر عن نفسها بصوتها الخاص.

الأسلوب البصري والتقني سينما الارتجال الممنهج

من الناحية التقنية، يعتمد "هرتلة في القاهرة" على أسلوب يدعم رؤيته الفلسفية بشكل مذهل. ابتعدت المخرجة عن الترتيب المفرط واللقطات "النظيفة" المعقمة، واختارت بدلاً من ذلك أسلوباً يحاكي نبض الشارع.

1. الكاميرا المحمولة واللقطات الطويلة

استخدام الكاميرا المحمولة (Handheld Camera) لم يكن خياراً جمالياً فحسب، بل ضرورة سردية. هذا الأسلوب يضع المشاهد في قلب الحدث، وكأنه يسير جنباً إلى جنب مع المخرجة في شوارع القاهرة. الاهتزازات الطبيعية للكاميرا، واللقطات الطويلة (Long Takes) التي تتبع الشخصيات دون قطع مونتاجي سريع، تمنح الفيلم إحساساً بالارتجال الممنهج. هذا التكتيك يجعلنا نشعر أن المدينة هي التي تكتب السيناريو الخاص بها في اللحظة الآنية، وأن الكاميرا مجرد شاهد يحاول اللحاق بهذا التدفق الهائل للحياة.

2. الصوت الميداني والموسيقى

يلعب الشريط الصوتي دوراً حاسماً في تجربة الفيلم. الصوت الميداني (ضجيج السيارات، نداءات الباعة، أحاديث المارة) لم يتم تنقيته ليعزل المشاهد، بل تم توظيفه ليخلق حالة من الانغماس الكلي. تتقاطع هذه الأصوات الواقعية مع خيارات موسيقية ذكية، تراوحت بين:

  • إيقاعات الماضي: عبر استحضار رموز مثل فريد الأطرش، سيد درويش، والشيخ إمام.
  • الإيقاعات الشعبية المعاصرة: التي تعكس صخب الحاضر.
    هذا المزيج يخلق "متناً شعرياً حياً" يجعل الفيلم تجربة حسية تُسمع وتُحس بقدر ما تُشاهد.

جدلية الماضي والحاضر الحنين كأداة للتحليل

أحد أبرز ملامح الفيلم هو قدرته الفائقة على التنقل بين الأزمنة. فرح الهاشم، بخلفيتها اللبنانية الكويتية وذكريات طفولتها في القاهرة، تستحضر الماضي ليس للبكاء على الأطلال، بل لفهم الحاضر.

استعادة الذاكرة السينمائية

يعتمد الفيلم على مرجعية سينمائية قوية مستمدة من الأفلام المصرية القديمة (الأبيض والأسود). هذه المرجعية لا تظهر كنوع من "النوستالجيا" الرومانسية الساذجة، بل كعدسة تحليلية. الماضي هنا جزء حي من الحاضر، متصل بالهوامش والتغيرات التي طرأت على المدينة.

تفكيك الواقع المعاصر

الحنين في "هرتلة في القاهرة" لا يطمس الحقيقة، بل يكشفها. من خلال المقارنة الضمنية بين "ما كان" و"ما هو كائن"، يسلط الفيلم الضوء على:

  • التفاوت الاجتماعي والاقتصادي: الفجوات التي اتسعت في نسيج المدينة.
  • الصراعات الثقافية والسياسية: التي تظهر في أحاديث الناس وملامحهم.
    بذلك، يقدم الفيلم رؤية متكاملة تعتمد على "الإحساس" أكثر من التفسير المباشر أو الخطابة الوثائقية الجافة.

أصوات البشر فسيفساء اجتماعية ناطقة

ما يميز هذا العمل الوثائقي هو غياب "الراوي العليم" التقليدي، واستبداله بأصوات الناس الحقيقيين. الشخصيات التي تظهر في الفيلم ليست ممثلين، بل هم نتاج بيئتهم:

  • الشباب الطامحون والمحبطون.
  • الفنانون والمثقفون الذين يحاولون تفسير واقعهم.
  • أصحاب الحرف وسكان المقاهي.

يقدم هؤلاء شهاداتهم ضمن ما يشبه حلقات نقاش مفتوحة وعفوية. هذه الحوارات المتداخلة، بنبرتها العفوية وفوضاها المحسوبة، تعكس ثقافة "الهرتلة" بأصدق صورها. كل قصة، مهما بدت عابرة أو مضحكة، هي قطعة من فسيفساء القاهرة الكبرى. تكشف هذه الشهادات عن التناقضات الصارخة: الحب والفقد، الطموح واليأس، الصخب المزعج والصمت المطبق.

الأبعاد الفلسفية للفيلم الهرتلة كفعل وجودي

يتجاوز الفيلم حدود التوثيق الاجتماعي ليصل إلى مستويات فلسفية وجودية. إنه لا يقدم إجابات جاهزة للمشاهد، بل يطرح عليه أسئلة عميقة حول:

  1. العلاقة بين الإنسان والمكان: كيف يشكلنا المكان وكيف نعيد تشكيله؟
  2. قيمة الخطأ والعشوائية: يجادل الفيلم بأن الجمال لا يكمن دائماً في النظام، بل في الأخطاء البشرية، في الهفوات، وفي الكلام غير المخطط له.
  3. الحقيقة في الارتجال: يوضح الفيلم أن "الهرتلة" قد تكون أصدق تعبير عن الواقع من الكلام المنمق والمعد مسبقاً.

إنها دعوة للتأمل في أن الحياة، تماماً مثل القاهرة، لا يمكن اختزالها في سردية واحدة مرتبة. إنها فوضوية، متناقضة، ومليئة بالدهشة، وهذا هو سر جاذبيتها.

الخلاصة لماذا يجب أن تشاهد هرتلة في القاهرة؟

فيلم "هرتلة في القاهرة" ليس مجرد فيلم وثائقي سياحي عن العاصمة المصرية، ولا هو تقرير إخباري يرصد مشاكلها. إنه تجربة فنية غامرة تعيد الاعتبار للتفاصيل الصغيرة والهامشية.

تستثمر فرح الهاشم علاقتها العاطفية العميقة بالمدينة لتقدم عملاً مشبعاً بالحب، لكنه حب نضج وواعٍ، يرى العيوب ولا ينكرها، بل يراها جزءاً من جمالية المشهد. الفيلم يشبه نصاً أدبياً حياً يُقرأ بالعين والأذن، يأخذك في رحلة عبر الزمن والمكان، ليؤكد في النهاية حقيقة واحدة: القاهرة مدينة لا تموت، بل تجد دائماً طريقة للحياة وسط "الهرتلة".

إذا كنت تبحث عن فيلم يجعلك "تنصت" للمدينة بدلاً من مجرد مشاهدتها، ويفكك لك شفرات الحياة اليومية المصرية بأسلوب فني رفيع، فإن "هرتلة في القاهرة" هو وجهتك المنشودة. إنه وثيقة بصرية تؤكد أن قدرة الإنسان على إنتاج الفن والحياة تستمر حتى في أوج العشوائية.



author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent